عامةكربلاءكل الاخبار

الاربعين الحسيني… مرهم الجراحات المغطاة بامل العودة

تحقيق: وصال الاسدي - تصوير: فاضل المياحي

تمشي اليك توسلا خطواتنا، في رحلة (بيها السهر بيها التعب يحلا)، نحمل اعلاما بايدينا ونزرع في كل شبر راية، فبعد ان (كبر بكلب المحب صوت النبض)، و( القارات السبعة ضجت)، تعجبت العجائب لحج في غير موسمه المعتاد.

قاصدين ملتقى الارواح عند باب المدينة، لم يهتموا لبعد المسافات (هذا اليجي بطي السما وهذا اليجي بطي الارض)، ولم تمنعهم الانظمة القمعية ولا الارهاب ولا الاحزاب، شعارهم ( لو قطعوا ارجلنا واليدين نأتيك زحفا سيدي ياحسين)، ولم تفرقهم الفئات والالوان والطوائف (اجت كل هوية صابئية والمسيحيين)، متخذين من ثورته لجاما للظلم (فكم طائفة بحبك احتجت)، في مشهد يفند كل النظريات القائلة ان الاسلام دين التعصب والعنصرية، ويعزز رؤية قيادتنا الحكيمة ( انكم جزء منا ونحن جزء منكم).

عبارة اسدلت خمار السكينة والطمأنينة على وجه الامة، فمن لايتذكر كيف وحد ذلك الكهل الاشم الفرقد العراق، وكيف احتوى ذلك الزقاق المتهالك العالم عندما تعانق الانجيل والقران على ارض الغري.

وحين قرر (الازدية والسنة مشي لحسين تتعنة)، شمر المجانين عن سواعد كرمهم، معبرين ( عشكنة مو عشك عابر-عشك ماصاير وداير)، لتفتح موسوعة غينيس بابا خاصا للزيارة الاربعينية، وحتى الارض توقفت عن دورانها لبرهة متساءلة (منو اهل العزوبية).

وفي اللحظة التي شاع فيها (يكولون الزيارة هالسنة ثكيلة)، قد تتجاوز الاعداد 22 مليون زائر، مد العراقيون سفرهم ( من الموصل الى البصرة لحدما توصل الحضرة)، وسط اجواء روحانية تقشعر لها الابدان، وتسابق للخدمة منقطع النظير، وكأنني في قوله تعالى ” ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا“، انها سفرة الى الله، (حي على مزاره-قد قامت الزيارة).

مرهم الجراحات .. على قيد الحق

قضية لاتنطفئ شعلتها على مر التاريخ، اذ شكلت محورا مفصليا في حياة الشعوب، ليس لانها توسمت بالدم الطاهر فقط، بل تعدت ذلك لتضع سدا منيعا بين الحق والباطل ليكون كل منهما شاخصا للعيان.

فتعددت جبهات القتال في طريقه بين قطع الايدي والارجل وبين السجن والاعدام والتهمة “احياء زيارة الاربعين”، الا ان صموده مد الاجيال بقوة البقاء على قيد الحق، فرحيم الشوملي الذي يقف على قدم صناعية منذ اكثر من (30 عاما) لم تمنعه ذكرياته الاليمة لرؤية قدمه المبتورة بـ ” كوسرة دون تخدير” ان يقدم الخدمة لزوار الاربيعينية.

شاهدته وهو يؤدي صلاة المغرب بجانب طرفه الصناعي، اكمل صلاته واعاده الى مكانه، وراح مسرعا لعجلته، حدثنا وهو ينقل احد الزوار على طريق كربلاء- طويريج في سيارة الاسعاف قائلا ” كان ازلام صدام يلاحقونا بين البساتين مثل هذه الايام، وفي احد الليالي تعرض لنا اثنان من رجال الامن المتخفين لقطع الطريق على المشاية، وبعد جدال طويل وتظاهرنا باننا حراس المزرعة تم اعتقالنا”.

في هذه الاثناء لاحظنا ان الحالة التي ينقلها رحيم هي زائرة ايرانية تعاني من ضيق بالتنفس، تم اجراء الاسعافات الاولية لها الى ان وصلنا الى المفرزة الطبية في مدينة الامام الحسين للزائرين، وهي واحدة من (75 مفرزة) منتشرة في المحافظة، هنا توقف متسائلا ” ترى لو كنا نريد اسعاف الامام الحسين عليه السلام من اي جرح سنبدأ؟”.

ويكمل ” قضيت اكثر من اربع سنوات بالسجن، وخرجت بعفو عيد القائد حينها، وبعد عامين تقريبا تم اعتقالنا مرة اخرى مع اثنين من اولاد عمي من محافظة البصرة وبعد ثلاثة ايام تعذيب وجلد وكهرباء، تم اعدامهم وقطعوا اوتار ساقي الايمن من مفصل الركبة لم اصحوا الا بعد (4 ساعات) تقريبا وجدت نفسي بالبيت، واخبروني انه تم ارسالي مع سيارة امن، اذ تم نقلي للمستشفى مباشرة والطبيب قال لافائدة ولا نملك ادوات لربط الاعصاب”.

“وبعدها تركنا العراق الى الجمهورية الايرانية، وعدنا في عام 2009، قدمت لاكثر من وزارة وتم قبولي على الصحة كسائق اسعاف وانا اقدم الخدمة كل عام لزوار الامام الحسين عليه السلام.”

وعندما سألته الا تتألم من القيادة لفترات طويلة؟، رد باكيا ” فدوة لابي عبد الله، اروحن فدوة لرجلين علي الاكبر”.

الحاج رحيم واحد من اسطول الاسعاف الفوري الذي بلغ عددهم هذا العام (85 سيارة)، ترافقها (50 فريق) استجابة سريعة، و(50 فريقا) للرقابة الصحية، كل واحد منهم يشحذ همة الاخر، ليبلغ اجمالي احالاتهم اكثر من (43000) حالة، من بين (7200000) زائر استفادوا من الخدمات المتنوعة في المستشفيات والمفارز والعيادات الخافرة الخاصة بالمحافظة، بالاضافة الى جهد العتبتين المقدستين في ذلك.

بوفيه مفتوح

كنا نسير برقفة الزائرين متجهين من المحور الجنوبي لكربلاء، كان السواد الذي يغطي الارض يشعرك بالقشعريرة خوفا ورهبة وعظمة، كان حسبنا ان الارض باتت تختزل المسافات اكراما لاقدامهم المكلومة من حرارة الارض.

الا ان البوفيه المفتوح الممتد على مسافة 600 كم في كل محور تقريبا، لم تشهده اي مناسبة عالمية مهما كان ثقلها، فاق كل السنوات، وخيب كل ذي قول ” ان الشعائر الحسينية تتضائل شيئا فشيئا”.

نزلنا عند موكب قمر العشيرة وسط الناصرية المنكوبة، ورغم بساطة الحال ولكن جودهم كان بكل ماجودهم، لم ينم الخدم حتى مطلع الفجر، والى دخولنا كربلاء لم ينقطع حبل الكرم،  فالعراق الذي تصوره الصحافة الصفراء بانه فقير،  يقدم 700مليون وجبة طعام، من غير الخدمات الاخرى خلال ايام معدودة فقط !!، واذا ما اعتمدنا الاحصائية الرسمية لاعداد الزائرين افتراضا ان 22 مليون منهم ادوا الزيارة.

عليه ان 22مليون ضرب 3 وجبات ” افتراضا”= 66 مليون وجبة طعام يوميا، وبناءا على ذلك فأن 66 ضرب 10 أيام ” افتراضا”=660 مليون وجبة غذائية يما بتجاوز النصف مليار  منها.

فكيف اذا كانت الموائد ممدودة على مدار 24 ساعة؟، ما لذ وطاب من بركات المولى، ناهيك عن الخدمات الحياتية الاخرى، اذ سطر مهندسو النظافة دروسا حية للتفاني في خدمة العقيدة بكل ما اوتوا من قوة، حتى انهارت اجسادهم التي نخرها العوز والفقر على قارعة الطريق فالاف الاطنان من النفايات لم يكن الـ800 فرد عددا كاف لذلك، كان الاجدر على الحكومة المركزية ان تفتح مركز ادارة ميداني لهذا الحدث لترى وتتعايش مايحتاج ولا نعتمد على القدرات الشخصية في دعم المؤسسات المحلية لتأدية واجب العمل، المتطوعون والمحافظات الساندة ليست حلا جذريا للازمة التي عاشتها كربلاء خلال 15 يوما وستعيشها، ولن تكفي 160 حوضية مع جهدها الهندسي لذلك، ولم يكن 2000 كيس نفايات متلائما مع الاعداد المهولة، وهنا نتسال هل لاحد مختصي الرياضيات ان يخرج لنا بمعادلة كافية وفق اسس العدد والوقت والجهد والاستهلاك لنضع الحكومة التي فشلت في اداء الامتحان الحسابي على جادة النجاح؟

حكومة ارعبها “كدر القيمة”!!

الدكتور يحيى جواد الحاصل على شهادة البورد السويدي في الطب الباطني، والعائد الى العراق من السويد هربا من ” السيسيال” ان يجندوا اولاده في العصابات الاجرامية، فما بين مهرب ومهرب يروي لنا قصته: “في عام 1992 حصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة بغداد/ كلية الطب، كنت مع مجموعة من الشباب نصلي في المسجد، وكنا نطبخ التمن والقيمة في يوم العاشر من المحرم،  تم اعتقالنا لمرات عدة، في احداها صرخت بوجه مختار المنطقة (طاح حظ الحكومة الي يخوفهه كدر القيمة)، ولكن في المرة الاخيرة جاؤوا ومعهم حكم الاعدام.

عندها قررنا ترك كل شئ، غيرنا اسماءنا وحصلنا على جوازات، ووصلنا بطريقة ما الى السويد المظلمة لستة اشهر من السنة، هناك استقبلنا “البروتستانت”، وبدأت رحلتنا مع العنصرية، الى ان انتقلنا الى مدينة فيها الديانة المسيحية التي تؤمن بوجود الله، تغيرت الاحوال نوعا ما، ولكن…

في لحظة ولادة حفيدي تفاجأنا بوجود “البوليس”عند باب الصالة، خيرا، الجواب..ان الام غير مؤهلة لتربية الطفل، وكيف عرفتم؟، انها تعاني من اكتئاب، اصابتني الدهشة!!!!!، والتزمت الصمت لثواني، ثم قلت له: انتظرني دقيقة سأعود لك.

هنا توجهت العلوية التي كانت تبكي ليل نهار شوقا الى الامام الحسين عليه السلام، يا ابا عبد الله، عبدالله امانة عندك بجاه عبد الله الرضيع عليك”.

رن الجرس من خارج الصالة بقيت متحيرا…..، ثم تبددت قوتي وانا مثقل بالحرقة اكاد اموت فتحت الباب فقال الشرطي: انا اسف قصدناكم بالخطأ هل الام بلاسم”….” فقلت: كلا، فقال: شكرا الى اللقاء.

وعدت به الى امه وكنت اتخيل حبيبي الحسين ” شلون راح عبدالله وعلى ايدك، والله ناذر عمري نذر لترابه، ساعد الله قلبك مولاي”.

ومن المستشفى الى المطار الى كربلاء مباشرة بتاريخ 20/ 6/ 2022، تركت هناك كل مابنيت خلال 25 عاما، كنت ارى تلك الاحداث امامي ولكن لم اتوقع ان اكون بهذا الموقف.

واستطرد قائلا” يا اختي….. عجيب ما رأيت بهالطريق، انترنت مجاني، اكل مجاني، شراب مجاني، فاكهه مجاني، تبريد مجاني بكل الدول ماشفت تبريد 900 طن، قتال على خدمة الزائر، موكب يوزع حتى الجواريب، انا اجزم ان هذه الزيارة برعاية المهدي “عج”، والا ملايين مثل عين النمل، هو هذا الحج من كل فج عميق”.

ما اشار اليه الدكتور في حديثه هو اخر ما استحدثته العتبات المقدسة باضافة اجهزة تبريد سعة 900 طن لتفادي ارتفاع درجات الحرارة نتيجة الجو العام والزخم البشري مما يؤثر على راحة الزائرين.

بالاضافة الى خدماتها الطبية من خلال (6) مستشفيات و(20) مفرزة و(3000) طبيب وممرض ومتطوع في زيارة الاربعين.

قطار العودة

100  عجلة وباص لكل محور كانت غير كافية لنقل المغادرين، ما تسبب بزخم كبير عند مخارج المدينة خرج عن السيطرة وسط جشع اصحاب السيارات الخاصة باستغلال الحاجة الملحة للزائرين، رغم كل محاولات الحكومة المحلية للسيطرة على الوضع ووسط اداء دون مستوى الطموح للدور المركزي في ادارة هذا المارثون الوطني.

وحسب المصادر الرسمية كانت المباشرة بالتفويج العكسي للزائرين من مدينة كربلاء المقدسة إلى المحافظات الأخرى عبر 3 محاور، مدير عام الشركة العامة للنقل البري في وزارة النقل مرتضى الشحماني عبر الموقع الرسمي للشركة بين إن “محاور نقل وتفويج الزائرين تقسمت الى 3 رئيسة، تمثل الاول (النجف – كربلاء)، و الثاني (بغداد – كربلاء)، والثالث ينحصر بين قنطرة السلام مرورا بسيطرة الابراهيمية وصولا الى سيطرة ام الهوى في (كربلاء – الحلة)”.

الا ان لقطار العودة كانت حكايات لم يمنعها ضجيج الحشود المليونية من ان يعلو صمتها، كنا في محطة قطار الامام عون نتابع عودة الزوار الى ديارهم، ما ان هممنا الرحيل، حتى غصت الحناجر بالعبرات، ورقرقت الدموع في حجرات الناظرين، فضاء من الذكريات لعابرين من زمان لزمان، اعاصير من عواطف القطيعة، الخوف، الخسارة، الانتقال من الامان الى المغامرة، هناك حيث كل شئ فوضوي ومرتب.

اغلق الكابتن باب اخر مقطورة وهو متعلق على جدار الامل بالعودة ملوحا بيده ” في امان الله”، لفت انتباهي ذلك اليافع كيف يتابع فلنجات القطار ويحدق فيها الى ان غار في الافق البعيد.

اختفى صوت القطار وبقي حسن ذو الاحد عشر ربيعا يجالس الصمت والوحدة، باحثا عن الامان الذي فقده منذ اربعة اعوام، عندما توفي والده الموظف بصفة عقد في معمل اسمنت كربلاء في حادث سير على طريق الموت، حينها تنازلت والدته عن عرش الامومة ليبقى هو واخته ذات الخمس سنوات انذاك تحت فيئ اجداده.

حسن يبيع العلكة والدبابيس وغزل البنات قرب الامام عون في كربلاء، ليغطي نفقاته واخته اليومية لانه يقول ” جانت جدتي ماتقبل نطلع وصلت للصف الخامس واختي صارت بالثاني ابتدائي، بس من ماتت جدتي وتمرض جدي، مرت عمي تكول ماعدنه مصرف بديت اطلع افتر ابيع علاليك وعلج وشعر بنات اجيب خمسة الاف ستة الاف، مرات امسح الجام بالتقاطع اني وسروة نحصل خيرات الله ، بس مايخلونة حاجزيهه الهم، وانطيهه الهه حتى نتغدة ونتعشى وياهم”.

حسن اتخذ من زيارة الاربعين فرصة ليتناسى جراحاته والامه، فيقول ” مرة جنت كاعد اباب الامام سمعت الشيخ يكول ان رقية بنت الامام الحسين عليه السلام هم ظلت يتيمة واخذوا الاعداء ابوهه مثلي، بس هي ارتاحت من ماتت عد راسه ، ساعتهه تمنيت لو ميت على تابوت ابوي ولا هاي العيشة”.

ولما تعمقت اكثر معه وجدت حرقة قلبه ليس على نفسه متنفسا بعمق” وداعتج خالة مو على روحي ضايج، سروة كاسرة ظهري”.

ويبقى حسن حبيس الدمعة والحسرة، بقليل من الامل بقوله ” الله كريم”، منتظرا من يوحد له نعليه، ويعود به الى مقاعد الدراسة ، ترى كم حسن خلف الشهداء طرق الموت من بعدهم؟.

وفي غروب الاربعين اختنق العالم بالحسرة، وبقيت شوارع المدينة حزينة، رغم جمال الأشجار تحت المصابيح المنعكس ضوءها على الفرات، وروعة وجوه فتياتها وشبابها الذين كانوا كالحلي لكربلائهم، ربما أرواح الشهداء خلفت هذا الحزن،  وربما لعنة دموع أم لم تجد من يساعدها في البحث عن فلذة كبدها المفقود منذ 1988، او هي صرخات فؤاد جارنا الذي توفى قبل أن تقر عينه بولده المفقود في مجزرة سبايكر. .

ولولا تلك التضحيات العظيمة التي قدمها العراقيون على طريقة سيد الشهداء، لما شاهدنا اليوم الزحف المليوني الى مرقده عليه السلام، فالدماء التي ارتوت منها ارض الوطن، بتنا نلمس ثمراتها اليوم ونحن نعيش عصر الديمقراطية في العراق، فالدستور يحكم هذه الملايين هو الذي كانت ضريبته ارواح الابطال الذين لازالت اصواتهم تصدخ (يحسين بضمايرنه …صحنا بيك امنا)، هو ما اشتق من منهج ال البيت عليهم السلام وليس الذي فصله الساسة على مقاسات مصالحهم.

سنبقى ننتظر عاما اخر حتى نحظى بعمر جديد نولد فيه بين الاربعين والاربعين، واذا لم نوفق سنضج لك بصوت تلك الام البسيطة التي تدعوك (بِالعبَاس.. عليك لاتحرمنا الزيارة)..وهي واثقة من سلامة قلبها مع الكفيل.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى