يقول المهتمون بالشأن الأثري والمتحفي إن “المدينة التي ليس فيها متحفاً؛ يعبِّر عنها، هي مدينة بشعة بلا فائدة، بلا أفكار، مدينة متهالكة، منبوذة لم تساهم في سيرورة الحياة”.
وفي العراق نجد العديد من أنواع المتاحف تأتي في مقدمتها المتاحف الآثارية، أهمها المتحف العراقي في بغداد ومتحف الناصرية في ذي قار. تليها المتاحف التراثية مثل المتحف البغدادي في العاصمة الذي يضم غالبية المعالم الحياتية لسكان بغداد الأوائل، ومتحف (كرميان) للفلكلور في أربيل. وللفن متاحفه أيضاً مثل المتحف الوطني للفن الحديث في بغداد الذي يحتوي على سبعة الآف عمل فني. وهناك متحفان للتاريخ الطبيعي في بغداد والبصرة. أما المتاحف الدينية فتتصدر كربلاء المقدسة -التي تعد من أهم مراكز السياحة الدينية في العراق- المدن بثلاثة متاحف هي (متحف العتبة الحسينية المقدسة) ، ومتحف الكفيل (العتبة العباسية المقدسة) ومتحف (ذاكرة الاسلام).
وبمناسبة اليوم العالمي للمتاحف الذي يوافق الخامس عشر من مارس من كل سنة كانت لنا هذه الجولة في أحد أهم المتاحف في كربلاء الا وهو (متحف العتبة الحسينية المقدسة) لما يضمه من نفائس ومقتنيات وكنوز متنوعة لا تقدر بثمن.
يقول مسؤول متحف العتبة الحسينية المقدسة السيد غسان الشهرستاني؛
ايمانا منا بدور المتاحف الكبير فى حياة المجتمعات، فقد قامت العتبة الحسينية المقدسة ممثلة بمتوليها الشرعي سماحة الشيخ مهدي الكربلائي بالعمل الحثيث على تأسيس المتحف وكانت اولى بذراته في العام 2009 ، اذ اننا -بداية- استلمنا محتويات المتحف من مخازن العتبة الحسينية بعد العام 2003، وللأسف وجدناها (مكدسة) بطريقة عشوائية؛ هذه المحتويات التي توزعت بين ابواب متنوعة وشبابيك وشمعدانات ومسكوكات وسيوف ودروع وبُرد كانت تكسو قبر الامام الحسين(ع)؛ وجدناها مخزونة بصورة مؤلمة دون مراعاة قيمتها وروحيتها، فالرطوبة و(العثة) أخذت منها مأخذا كبيرا فقمنا بترميمها وتأهليها وصيانة ماتلف منها؛ مثل (باب المذبح ) الخشبي القديم المصنوع من خشب البلوط بطريقة (الخاتم) وايضا منبر فريد من نوعه -هدية الوزير القاجاري- عملنا على ترميمه بطريقة علمية فنية دقيقة وأخذ منا جهدا كبيرا لندرة مواده فضلا عن قلة الحرفيين المحترفين في هذا المجال الذين يعدون على اصابع اليد الواحدة؛ وقد استفدنا كثيرا من خبرة المتحف العراقي وخصوصا قسم الصيانة عبر اشرافهم المباشر على عمل الصيانة بشكل متميز.
يحتوي المتحف على المئات من النفائس والقطع النادرة المهداة من قبل الأمراء والسلاطين وبالأخص ملوك الهنود وبعض من سلاطين الأتراك وأمراء الفرس والعرب المسلمين، فضلا عن الوزراء والوجهاء والتجار والمسلمين من مختلف الدول الإسلامية حيث قام هؤلاء المحبون بتقديم هذه الهدايا القيمة إلى العتبة الحسينية المطهرة والتي لم يبق منها سوى جزء يسير اذ سرق الكثير منها على أيدي الرمز الخائنة التي اعتدت على المرقد الحسيني الطاهر عبر التاريخ ؛ اذ تعرض المرقد للسرقة في العهد العباسي والعهد العثماني والعهد الصدامي الا أن هناك بعضا من النفائس قد سلمت من الايادي الحديثة المعتدية وهي المعروضة الآن في المتحف المبارك وهناك الكثير من المعروضات لم يتسع المكان لعرضها. ولا نأتي بشيء جديد اذا قلنا بان المتاحف تقوم على إدامة مفاصل التراث والحفاظ عليه؛ و تصدير مفرداته بمهنية وأمانة؛ ورسالة المتاحف عظيمة لا تقل في الأهمية عن غيرها من الممارسات الثقافية من حيث التنمية الحضارية، والارتقاء بأذواق الشعوب،ولا نأتي بشيء جديد اذا قلنا بان المتاحف تقوم على إدامة مفاصل التراث والحفاظ عليه؛ و تصدير مفرداته بمهنية وأمانة؛ ورسالة المتاحف عظيمة لا تقل في الأهمية عن غيرها من الممارسات الثقافية من حيث التنمية الحضارية، والارتقاء بأذواق الشعوب.
فالمتحف يحفظ تاريخ عدة أجيال خوفا من الضياع عبر (حفظ وترميم وصيانة المخطوطات والادوات المتنوعة والمقتنيات ذات القيمة الثقافية (التاريخية أو الدينية او العلمية) فهو مكان يعكس ماضي المجتمعات وتراثها فضلا عن حاضرها لذلك فهو مرآة تعكس وجه وتفاصيل المجتمع للزوار و السياح، ووعاء معرفي أصيل ، وسجل مهم لأرشفة وتوثيق التراث.
(شعرة السعادة) المنسوبة الى الرسول الاعظم (ص)
ويضيف السيد الشهرستاني؛ ان محتوى هذا المتحف لا يقدر بثمن (روحيا وماديا) ؛ ففي المتحف شعرة السعادة منسوبة الى الرسول الاعظم (ص) مهداة من الوالي العثماني علي داود باشا؛ تعرض للزائرين في يوم ٣شعبان من كل عام وهي محفوظة في زجاجة خاصة تم تصميمها وصنعها في مدينة اصفهان.
فضلا عن الهدايا الذهبية الثمينة والسجاد والسيوف والدروع والخواتم والمسكوكات وهناك ابواب متنوعة مصنوعة من الذهب والفضة والخشب الفاخر صنعت بطريقة فنية فريدة من نوعها ومنابر زخرفت بالكامل بالنحاس والعاج والذهب بطريقة (الخاتم) دون ان يستخدم فيها اي مسمار حديد!!
ومن النفائس التي لا مثيل لها في العالم سجادة (ثأر الله) صناعة يدوية من الحرير والصوف وتعد من أندر(۹۰) سجادة في العالم؛ قياسها (٥مx ٣.٦٥م). هذه السجادة تجسد وتحاكي قضية استشهاد الامام الحسين (ع) وانصاره الكرام اذ نسج فيها (٧٢) ملكًا يرمز الى أانصار الامام الحسين (ع). وتحتوي على (۳۰) مليون عقدة؛ شارك في نسجها (١٦) الف عامل للتبرك!!
وقد تم تصميم واعداد فكرتها في مدة (٣٥) عاما من قبل الاستاذين الفنانين (محمود فرشجيان) و(سيد جعفر رشتيان) واستغرق العمل فيها ثماني سنوات واكتمل انجازها في العام ٢٠١٤. شاركت هذه السجادة في مسابقات فنية عالمية حازت فيها على مكانة متقدمة بين مثيلاتها. وقد قيّمت بمليوني دولار!! الا ان العائلة الاصفهانية، التي تعود لها السجادة -وهي من بيت يسمى (حقيقي)- آثرت إهداءها الى مرقد الامام الحسين (ع) تبركًا وتقديرًا.
تجمع الحضارات
وأوضح السيد غسان الشهرستاني: “ان هدف متحف العتبة الحسينية ليس الربح او التجارة كما هو متعارف عليه في متاحف دول العالم، اذ ان الدخول اليه في مواعيد محددة يوميا (للنساء والرجال) مجانا؛ لأننا نؤمن بان الثقافة هي معيار أساسي في التنشئة الاجتماعية للإنسان بدءا من مرحلة الطفولة، لتنتقل من جيل الى جيل لاحقاً لتشكل هويته الذاتية، لا بل وتحديد سلوكياته وتوجهاته وترسخ فيه الشعور بالانتماء الاجتماعي لما يعتنقه من مباديء مجتمعية ومعتقدية وحضارية سامية؛ فالثقافة لا تهذب الفكر والحواس فقط لكنها تعد الإنسان لمستقبل الانسانية والبشرية؛ من هذا الباب -والحديث للسيد الشهرستاني- بإننا انفتحنا على حضارات الامم والشعوب الاخرى؛ تحقيقا وترسيخا لقوله تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)؛ فأقمنا في العام ٢٠٢٠م – ببركة الله وآل بيت الرحمة وبرعاية القائمين على أمانة العتبة الحسينية المقدسة- مهرجانا كبيرا تحت عنوان (تجمع الحضارات) على أرض (قصر الاخيضر) شاركت فيه ٤٨ دولة لها إرث حضاري موغل في القدم من مختلف انحاء العالم مثل(اليمن وسوريا ومصر وليبيا وتركيا وغيرها) عرض فيها المشاركون لوحات لملامح حضاراتهم وثقافاتهم .
واضاف السيد غسان: “ولأن للمتاحف رسائلها الثقافية المتنوعة (التاريخية/الدينية/العلمية/ الطبيعية.. الخ)، فقد انعكس ذلك بدوره على كيفية التصميم الداخلي والمعماري لها، هذا إلى جانب ما وضعته المفاهيم الحديثة والاتجاهات الفكرية المعاصرة للتصميم الداخلي والمعماري للمتاحف في العقود الأخيرة، إذ ربطت بين المكون المعماري، وآلية العرض، ومضمون الرسالة المتحفية، ومنها جاءت الصياغة الرمزية للتصميم الداخلي والمعماري للمتاحف كرابط مادي يكفل نقل معاني الرسالة الثقافية إلى جمهوره.
وبهذا الصدد كشف الشهرستاني عن رؤية امانة العتبة الحسينية في اهتمامها بالجانب (المتحفي) بقوله؛ ان امانة العتبة خصصت متحفا بطبقات اربع، بمساحة (١٢٨٨م) لكل طبقة، يضم هذا المتحف-الذي سيكون موقعه في صحن العقيلة السيدة زينب (ع)- قاعات لعقد المؤتمرات ومكتبات عدة، وستتوفر فيه مستلزمات ومعايير المتاحف العالمية الكبرى ، ومن المؤمل افتتاحه في ظرف ثلاث سنين تقريبا من الان، وهناك تعاون -بصورة اولية- مع الدكتورة (أريانا توماس) والدكتورة ثريا نجيم (المشرفة والمؤسسة لجناح المتحف الاسلامي) في متحف اللوفر بفرنسا لأجل تطوير عملنا واكتساب الخبرات العالمية في هذا المجال..
يوم المتاحف الاسلامي
وبيّن السيد الشهرستاني: “أن اليوم العالمي للمتاحف -الذي أقر من قبل(المجلس الدولي للمتاحف)- كان قد بدأ الاحتفال به في العام ١٩٧٧، بهدف إتاحة الفرصة أمام المختصين للتواصل مع (العامة) وتنبيههم للتحديات.
ونحن بصدد تقديم اقتراح لمرجعيتنا الادارية والقائمين على شؤون أمانة العتبة الحسينية المقدسة لدراسة فكرة اقامة يوم سنوي (خاص)، بإسم (يوم المتحف الاسلامي) تلتقي فيه مقتنيات وشخوص المتاحف التي لها شأن، او جانب اهتمام بالأثر الاسلامي؛ وسيكون فيه -ان اعتمدت هذه الفكرة- معارض مشتركة ضخمة وفعاليات وندوات ولقاءات وورش عمل واتفاقيات تعاون وغير ذلك؛ ونأمل- ان شاء الله- ان يكون اقامة هذا اليوم – إن أقرّ – في يوم افتتاح متحف العتبة الحسينية في صحن السيدة زينب(ع).
الخاتمة
ظهر خلال العقدين الأخيرين، توجه واضح – حسب الدراسات- نحو الاهتمام بالمتاحف الحديثة المعاصرة وأخذت المدن تهتم بالجانب (المتحفي) الذي يشير الى خصوصيتها وفرادة بيئتها ومعتقداتها؛ وبدأت بالانتشار نظرية جديدة مفادها “أن دور المتاحف هو تعليم وتثقيف الزائر، واطلاعه على كل مظاهر الحضارة التي تنتمي إليها مجموعة مّا من الآثار. كما يُعد من واجبات المتحف، العمل على خلق وعي جديد ، وتنمية مشاعر الولاء والانتماء، واطلاع المجتمع المحيط على تاريخه بصورة ملموسة”. وما لمسناه في متحف العتبة الحسينية المقدسة من جد واجتهاد في العمل تمثل في تجميع المقتنيات وصيانتها وتأهيلها وحفظها وعرضها بصورة احترافية، فضلا عن روح الانفتاح على ثقافة الآخر، والسعي لإجتراح وتبني الافكار الايجابية دون تقييد، يجعلنا نقف مع هذا الجهد المبارك الذي تقوم به ادارة المتحف ومنتسبوه جميعا، وان نحث في الوقت نفسه الجهات الحكومية واصحاب القرار بالعمل على دعم هذه المشروعات النبيلة التي تساهم في التعريف بهوية اﻟﻤجتمعات وتنوعها، والارتقاء بأذواق الشعوب، فالمتاحف حقا هي ذاكرة الامم، والسجل والارشيف البصري لنا في الاتصال بين الماضي والحاضر، فكل قطعة ومقتنى تحتويها المتاحف؛ هي درس تاريخي وثقافي هام.
المصدر جريدة صباح كربلاء