تحدّد العلامة في المنظور النقدي بالشيء الذي تحتّم معرفته معرفة شيء آخر، بمعنى أنه قائم على نظام الإحالات، والعلامة في الشعر تمتلك قابلية الانشطار، أو ما يسميه إيكو الانتشار السرطاني، وهي هنا، ليس لها معنى واحد، فالمعنى الشعري نقيض الثبات، ومتى ما ثبت تحوّل إلى (نمط) وبتنميطه يتسرب منه ماء الشعرية، ويجف شيئا فشيئا حتى يحيل نفسه إلى (كومة رمل)، كما وصف (العقاد) بعضا من قصائد (شوقي) الكلاسيكية؛ إن توهّج الشعر يتأتّى من عدم ثباته، ولعل من أهم تمرحلات العمود اليوم (لعبة العلامات) وهو تحرّك يحصل على خطّين، خط (العلامة الشعرية) وخط (المعنى الشعري) تُنتج الأولى عبر تشغيل آليات حداثية يضطلع بإفرازها ما أسميته في مناسبة أخرى بـ(المستوى الإحالي) الذي تنضوي تحته كل علامة تنتمي لنص غائب، كالعلامة البيانية (المجاز والاستعارة) شريطة تعليمها – أي جعلها علامة إحالية- أو (علامة سيميائية منزاحة) بشكل عام، و(العلامة الرمزية) وكذلك (العلامة القِناعيّة)، ويُنتج الآخر – أعني المعنى الشعري- حين توضع تلكم العلامات في سياقها النصّي – الشعري – البنيوي الجديد، وبدخوله لدائرة البنيات النصيّة في التجربة الواحدة يطرح مادته المعنوية التي لا تُكتشف من قبل المتلقي الكسول – فهي متمنّعة لا تسلّم قيادها بيسر – بل يقترب منها ويحرز فهمها. المتلقي (المُؤوِّل) .
في مدونة الصوري الجديدة، نلمس العناية بخلق لعبة من علامات شعرية منذ مناطق العتبات، ولضيق مساحة هذه المقاربة، فإني سأقرأ (عتبة الإهداء) في النسخة التي بين يدي فحسب، ولسببين، الأول أنها تحمل إهداءً خاصاً مخطوطاً بخطّ يد الشاعر، والآخر خطورة عتبة الإهداء؛ ليعلم من تسوّل له نفسه أن يقرأ (العتبات / الإهداءات) قراءة تقليدية محايدة، بأن هذه العتبات ليست بريئة أبداً.
يتمظهر الإهداء في المدونة التي بين يدي تمظهرين الأول أسمّيه (الإهداء المخطوط) ويقع في منطقة عتباتية ستراتيجية، إذ يأخذ مكانه في أعلى يسار الصفحة شبه البيضاء التي تتلو غلاف المدوّنة مباشرة، مكتوب بخطٍّ أحمرَ حسنٍ، والآخر وأسميه (الإهداء المطبوع) وهذا يحمل سمة رسمية عامة، تفتح مساحة الحوار مع الآخر – أيّ آخر كان – لتدسّ في جيب تلقيه سرّا عن خطاب المدوّنة كلها، في حين تضيق مساحة الأول – المخطوط – ليتّجه الخطاب فيه لمُهدَى له مخصّص.
يتشكل (الإهداء المخطوط) – لغوياً بنيوياً – من حركتين، الأولى اجتماعية واصِفة وهي: (صديقي الناقد الدكتور صباح التميمي)، والثانية تعريفية تفسيرية سيميائية تقول : (الشجنُ عاطفةٌ، والشجرُ فلسفةٌ، والمعلّق بينهما يحتاجك لتهزّه)… في هذه الحركة البنيوية تكمن خطورة عتبة (الإهداء المخطوط) ، فهي ترتبط مع عنوان المجموعة الرئيس: (معلّق بين أشجاني وأشجاري) بعلاقة ارتدادية تعمل على تفسيره وتأويله، فتكشف كامن أسراره، وملغّز لغته، فـ(أشجاني) المتمظهرة في العنوان بمرتبة تركيبية تسبق (أشجاري) تعني : (عواطف الشاعر) بحسب ما يفشيه الإهداء الخاص، والشاعر يتملّكها بضمير (ياء المتكلّم)، ويقدّمها في الرتبة التركيبية في جملة العنوان؛ لأن الشعر عاطفة أولا ثم أشياء أخرى، ولأن العاطفة هي أول ما يُمسَك على سطح الذات الشاعرة لحظة القراءة الأولى، قبل الدخول لعمقها، نراه يقدمها في الرتبة، ويُرجئ الأخطر، ثم يعطف على هذا المعنى : (أشجاري) التي تعني – بحسب الإهداء التعريفي المخطوط – : (الفلسفة)، بل (فلسفة الشاعر) لأنه تملَّكها – أيضا – بضمير المتكلّم.
وإذا جاز لنا أن نتأوّل العنوان، فإننا نجد أن مفردة (المُعَلَّق/ الشاعر) تحيل على حالة من عدم الاستقرار، فهو موزّع بين عواطفه المنتمية للآخر القريب والبعيد، وفلسفته اللامنتمية النافرة، فالفلسفة الشعرية (وجهات نظر) يجب أن تكون ذاتية خاصة، وهو مشتّت بينهما، بين عواطفه – سطحه الظاهر – وفلسفته – عمقه المدفون – لذلك وظّف الشاعر رمز الشجرة، فالشجرة كائن حي، نصفه على السطح، ونصفه الآخر في العمق، وهي تحيل على (الأسرار الدفينة)، فسرُّ نزولِ آدمَ وحواء (شجرة)، وسرّ (رحلة الطوفان) وبناء السفينة يرتبط بـ(الشجرة) مادتها الأولية، وسر السماء في (شجرة) أيضا، وهكذا تقف كل أسرارنا على (شجرة) فهي إذن، فلسفتنا لهذا العالم، ومحاولة التعلّق بها فلسفةٌ، ومحاولة هزّها فلسفةٌ أيضاً، ومحاولة قطعها فلسفةٌ كذلك، وهذا يحكي حيرة إنسان ما بعد الحداثة الموزّع بين تحقيق الذات والقرب من الآخر الخاص، والنفور من الآخر المركزي، وبين فهم الكون وفلسفة أشيائه بطريقة تحاول أن تكسر عنجهية بروتوكولات (الكولونيالية) الجاهزة.
بنيوياً سيميائياً، الشجرة -هنا- (علامة شعرية) فاعلة، ولاعب أساسي في لعبة علامات (العنوان والإهداء).
ولكيلا تكون قراءاتنا (خدّجيّة) بنصف إضاءة، لابد لنا – بعد الوقفة العتباتية – من فحص سريع لكشف القاموس العَلامِي للمدوّنة بانتاجيتها العامة عبر مقاربة (المستوى العلائقي) بين العتبات / العنوان + الإهداء، وبين المتون الممتدة أفقياً على خط طول المدوّنة كلها.
ولعلّ جولة سريعة في نصوص المجموعة الشعرية – تقتضيها المساحة الضيقة للمقاربة طبعا – تُفضي إلى معرفة حقول العلامات المتفشية في النصوص، وأهمّ حقلين ينهمران في سواقي المجموعة دلاليّا : (حقل الأنا) التي تحتقب معها (فلسفة الكون والأشياء المحيطة بالذات الشاعرة) وهي تحرّك (ذاتي) خالص، وهذا الحقل هو التجلّي المباشر لعلامة (الشجرة / أشجاري)، و(حقل الآخر الأنثوي) وفيه تختلط العاطفة بالخيال الإيروتيكي، ففيه يحضر كامن العاطفة، وظاهر الجسد في الآن نفسه، ويمثّل امتداداً بنيوياً فنياً لنسق (الأشجان) التي هي صورة علامية للعاطفة المتأججة داخل الذات، والتي تُظهرها الحوارات التي تفتحها مع (الآخر الأُنثى)، وبهذا تتجلّى (علاقة الامتداد) بين (العتبات) و(المتون) عبر تمدّد (علامات الشجر والشجن)/ (الفلسفة والعاطفة) لتغطي جغرافية المدوّنة كلها عدا نصوص قليلة تقع خارج هذين الحقلين.
المصدر جريدة صباح كربلاء